سورة التوبة - تفسير تفسير القرطبي

/ﻪـ 
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (التوبة)


        


{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (65)}
فيه ثلاث مسائل:
الأولى: هذه الآية نزلت في غزوة تبوك. قال الطبري وغيره عن قتادة: بينا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسير في غزوة تبوك وركب من المنافقين يسيرون بين يديه فقالوا: انظروا، هذا يفتح قصور الشام ويأخذ حصون بني الأصفر! فأطلعه الله سبحانه على ما في قلوبهم وما يتحدثون به، فقال: «احبسوا علي الركب».ثم أتاهم فقال: «قلتم كذا وكذا» فحلفوا: ما كنا إلا نخوض ونلعب، يريدون كنا غير مجدين. وذكر الطبري عن عبد الله بن عمر قال: رأيت قائل هذه المقالة وديعة بن ثابت متعلقا بحقب ناقة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يماشيها والحجارة تنكبه وهو يقول: إنما كنا نخوض ونلعب. والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: {أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ}. وذكر النقاش أن هذا المتعلق كان عبد الله بن أبي بن سلول. وكذا ذكر القشيري عن ابن عمر. قال ابن عطية: وذلك خطأ، لأنه لم يشهد تبوك. قال القشيري: وقيل إنما قال عليه السلام هذا لوديعة بن ثابت وكان من المنافقين وكان في غزوة تبوك. والخوض: الدخول في الماء، ثم استعمل في كل دخول فيه تلويث وأذى.
الثانية: قال القاضي أبو بكر بن العربي: لا يخلو أن يكون ما قالوه من ذلك جدا أو هزلا، وهو كيفما كان كفر، فإن الهزل بالكفر كفر لا خلاف فيه بين الامة. فإن التحقيق أخو العلم والحق، والهزل أخو الباطل والجهل. قال علماؤنا: انظر إلى قوله: {أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ} [البقرة: 67].
الثالثة: واختلف العلماء في الهزل في سائر الأحكام كالبيع والنكاح والطلاق على ثلاثة أقوال: لا يلزم مطلقا. يلزم مطلقا. التفرقة بين البيع وغيره. فيلزم في النكاح والطلاق، وهو قول الشافعي في الطلاق قولا واحدا. ولا يلزم في البيع. قال مالك في كتاب محمد: يلزم نكاح الهازل.
وقال أبو زيد عن ابن القاسم في العتبية: لا يلزم.
وقال علي بن زياد: يفسخ قبل وبعد. وللشافعي في بيع الهازل قولان. وكذلك يخرج من قول علمائنا القولان. وحكى ابن المنذر الإجماع في أن جد الطلاق وهزله سواء.
وقال بعض المتأخرين من أصحابنا: إن اتفقا على الهزل في النكاح والبيع لم يلزم، وإن اختلفا غلب الجد الهزل.
وروى أبو داود والترمذي والدارقطني عن أبي هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثلاث جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق والرجعة». قال الترمذي: حديث حسن غريب، والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وغيرهم. قلت: كذا في الحديث: «والرجعة» وفي موطأ مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد ابن المسيب قال: ثلاث ليس فيهم لعب النكاح والطلاق والعتق. وكذا روي عن علي ابن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وأبي الدرداء، كلهم قال: ثلاث لا لعب فيهن ولا رجوع فيهن واللاعب فيهن جاد النكاح والطلاق والعتق. وعن سعيد بن المسيب عن عمر قال: أربع جائزات على كل أحد العتق والطلاق والنكاح والنذور. وعن الضحاك قال: ثلاث لا لعب فيهن النكاح والطلاق والنذور.


{لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (66)}
قوله تعالى: {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ} على جهة التوبيخ، كأنه يقول: لا تفعلوا ما لا ينفع، ثم حكم عليهم بالكفر وعدم الاعتنذار من الذنب. واعتذر بمعنى أعذر، أي صار ذا عذر. قال لبيد:
ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر والاعتذار: محو أثر الموجدة، يقال: اعتذرت المنازل درست. والاعتذار الدروس. قال الشاعر:
أم كنت تعرف آيات فقد جعلت *** أطلال إلفك بالودكاء تعتذر
وقال ابن الاعرابي: أصله القطع. واعتذرت إليه قطعت ما في قلبه من الموجدة. ومنه عذرة الغلام وهو ما يقطع منه عند الختان. ومنه عذرة الجارية لأنه يقطع خاتم عذرتها.
قوله تعالى: {إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ} قيل: كانوا ثلاثة نفر، هزئ اثنان وضحك واحد، فالمعفو عنه هو الذي ضحك ولم يتكلم. والطائفة الجماعة، ويقال للواحد على معنى نفس طائفة.
وقال ابن الأنباري: يطلق لفظ الجمع على الواحد، كقولك: خرج فلان على البغال. قال: ويجوز أن تكون الطائفة إذا أريد بها الواحد طائفا، والهاء للمبالغة. واختلف في اسم هذا الرجل الذي عفي عنه على أقوال. فقيل: مخشي بن حمير، قاله ابن إسحاق.
وقال ابن هشام: ويقال فيه ابن مخشي.
وقال خليفة بن خياط في تاريخه: اسمه مخاشن بن حمير.
وذكر ابن عبد البر مخاشن الحميري وذكر السهيلي مخشن بن خمير. وذكر جميعهم أنه استشهد باليمامة، وكان تاب وسمي عبد الرحمن، فدعا الله أن يقتل شهيدا ولا يعلم بقبره. واختلف هل كان منافقا أو مسلما. فقيل: كان منافقا ثم تاب توبة نصوحا.
وقيل: كان مسلما، إلا أنه سمع المنافقين فضحك لهم ولم ينكر عليهم.


{الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ (67)}
قوله تعالى: {الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ} ابتداء. {بَعْضُهُمْ} ابتداء ثان. ويجوز أن يكون بدلا، ويكون الخبر {مِنْ بَعْضٍ}. ومعنى {بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} أي هم كالشيء الواحد في الخروج عن الدين.
وقال الزجاج، هذا متصل بقوله: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ} [التوبة: 56] أي ليسوا من المؤمنين، ولكن بعضهم من بعض، أي متشابهون في الامر بالمنكر والنهي عن المعروف. وقبض أيديهم عبارة عن ترك الجهاد، وفيما يجب عليهم من حق. والنسيان: الترك هنا، أي تركوا ما أمر هم الله به فتركهم في الشك.
وقيل: إنهم تركوا أمره حتى صار كالمنسي فصيرهم بمنزلة المنسي من ثوابه.
وقال قتادة: {فَنَسِيَهُمْ} أي من الخير، فأما من الشر فلم ينسهم. والفسق: الخروج عن الطاعة والدين. وقد تقدم.

16 | 17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23